فصل: ذكر ظفر الترك وقتل عبد الرحمن بن ربيعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

وحج بالناس هذه السنة عثمان. وفيها مات أبو الدرداء الأنصاري، وهو بدري، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين. وفيها مات أبو طلحة الأنصاري، وهو بدري، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة إحدى وخمسين. وفيها مات أبو أسيد الساعدي، وقيل: مات سنة ستين، وهو على هذا القول آخر من مات من البدريين.
أسيد بضم الهمزة.
وفيها مات أبو سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، وأخوه الطفيل. وأبو سفيان بن حرب بن أمية، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وثلاثين:

قيل: في هذه السنة غزا معاوية بن أبي سفيان مضيق القسطنطينية ومعه زوجته عاتكة بنت قرظة، وقيل فاختة.

.ذكر ظفر الترك وقتل عبد الرحمن بن ربيعة:

في هذه السنة انتصرت الخزر والترك على المسلمين.
وسببه أن الغزوات لما تتابعت عليهم تذامروا وقالوا: كنا أمة لا يقرن بنا أحد حتى جاءت هذه الأمة القليلة فصرنا لا نقوم لها. فقال بعضهم: إن هؤلاء لا يموتون وما أصيب منهم أحد في غزوهم. وقد كان المسلمون غزوهم قبل ذلك فلم يقتل منهم أحد، فلهذا ظنوا أنهم لا يموتون. فقال بعضهم: أفلا تجربون؟ فكمنوا لهم في الغياض، فمر بالكمين نفرٌ من الجند فرموهم منها فقتلوهم فتواعد رؤوسهم إلى حربهم ثم اتعدوا يوماً. وكان عثمان قد كتب إلى عبد الرحمن ابن ربيعة وهو على الباب: إن الرعية قد أبطرها البطنة فلا تقتحم بالمسلمين فإني أخشى أن يقتلوا. فلم يرجع عبد الرحمن عن مقصده، فغزا نحو بلنجر، وكان الترك قد اجتمعت مع الخزر فقاتلوا المسلمين قتالاً شديداً وقتل عبد الرحمن، وكان يقال له ذو النور، وهو اسم سيفه، فأخذ أهل بلنجر جسده وجعلوه في تابوت فهم يستسقون به ويستنصرون به، فلما قتل انهزم الناس وافترقوا فرقتين: فرقة نحو الباب، فلقوا سلمان بن ربيعة أخا عبد الرحمن، كان قد سيره سعيد بن العاص مدداً للمسلمين بأمر عثمان، فلما لقوه نجوا معه، وفرقة نحو جيلان وجرجان، فيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة، وكان في ذلك العسكر يزيد بن معاوية النخعي وعلقمة بن قيس ومعضد الشيباني وأبو مفرز التميمي في خباء واحد، وعمرو بن عتبة وخالد بن ربيعة والحلحال بن ذري والقرثع في خباء، فكانوا متجاورين في ذلك العسكر، وكان القرثع يقول: ما أحسن لمع الدماء على الثياب! وكان عمرو بن عتبة يقول لقباء عليه: ما أحسن حمرة الدماء على بياضك! ورأى يزيد بن معاوية أن غزالاً جيء به لم ير أحسن منه فلف في ملحفة ثم دفن في قبر لم ير أحسن منه عليه ثلاثة نفر قعود، فلما استيقظ واقتتل الناس رمي بحجر فهشم رأسه فمات، فكأنما زين ثوبه بالدماء وليس بتلطيخ، فدفن في قبر على الصورة التي رأى.
وقال معضد لعلقمة: أعرني بردك أعصب به رأسي، ففعل، فأتى برج بلنجر الذي أصيب فيه يزيد فرماهم فقتل منهم وأتاه حجر عرادة ففضخ هامته، فأخذه أصحابه فدفنوه إلى جنب يزيد، وأخذ علقمة البرد فكان يغسله فلا يخرج أثر الدم منه، وكان يشهد فيه الجمعة ويقول: يحملني على هذا أن دم معضد فيه. وأصاب عمرو بن عتبة جراحة فرأى قابءه كما اشتهى ثم قتل. وأما القرثع فإنه قاتل حتى خرق بالحراب، فبلغ الخبر بذلك عثمان فقال: إنا لله، انتكث أهل الكوفة، اللهم تب عليهم وأقبل بهم! وكان عثمان قد كتب إلى سعيد بن العاص أن ينفذ سلمان إلى الباب للغزو، فسيره فلقي المهزومين، على ما تقدم، فنجاهم الله به. فلما أصيب عبد الرحمن استعمل سعيدٌ سلمان بن ربيعة على الباب، واستعمل على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان، وأمدهم عثمان بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة، فتأمر عليهم سلمان وأبى حبيب حتى قال أهل الشام: لقد هممنا بضرب سلمان. فقال الكوفيون: إذن والله نضرب حبيباً ونحبسه وإن أبيتم كثرت القتلى فينا وفيكم؛ وقال أوس بن مغراء في ذلك:
إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم ** وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل

وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا ** وهذا أميرٌ في الكتائب مقبل

ونحن ولاة الأمر كنا حماته ** ليالي نرمي كل ثغر ونعكل

وأراد حبيب أن يتأمر على صاحب الباب كما يتأمر أمير الجيش إذا جاء من الكوفة، فكان ذلك أول اختلاف وقع بين أهل الكوفة والشام. وغزا حذيفة ثلاث غزوات، فقتل عثمان في الثالثة، ولقيهم مقتل عثمان فقال حذيفة بن اليمان: اللهم العن قتلته وشتامه! اللهم إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا فاتخذوا ذلك سلماً إلى الفتنة! اللهم لا تمتهم إلا بالسيوف!

.ذكر وفاة أبي ذر:

وفيها مات أبو ذر، وكان قد قال لابنته: استشرفي يا بنية هل ترين أحداً؟ قالت: لا. قال: فما جاءت ساعتي بعد. ثم أمرها فذبحت شاةً ثم طبختها ثم قال: إذا جاءك الذين يدفنونني فإنه سيشهدني قوم صالحون فقولي لهم: يقسم عليكم أبو ذر أن لا تركبوا حتى تأكلوا. فلما نضجت قدرها قال لها: انظري هل ترين أحداً؟ قالت: نعم هؤلاء ركب. قال: استقبلي بي الكعبة، ففعلت. فقال: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم مات، فخرجت ابنته فتلقتهم وقالت: رحمكم الله، اشهدوا أبا ذر. قالوا: وأين هو؟ فأشارت إليه، قالوا: نعم ونعمة عين! لقد أكرمنا الله بذلك. وكان فيهم ابن مسعود فبكى وقال: صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، «يموت وحده ويبعث وحده». فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه. وقالت لهم ابنته: إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام، وأقسم عليكم أن لا تركبوا حتى تأكلوا؛ ففعلوا وحملوا أهله معهم حتى أقدموهم مكة ونعوه إلى عثمان، فضم ابنته إلى عياله وقال: يرحم الله أبا ذر ويغفر له نزوله الربذة.
ولما حضروا شموا من الخباء ريح مسك فسألوها عنه فقالت: إنه لما حضر قال: إن الميت يحضره شهود يجدون الريح لا يأكلون، فدوفي لهم مسكاً بماء ورشي به الخباء.
وكان النفر الذين شهدوه: ابن مسعود، وأبا مفرز، وبكر بن عبد الله التميميين، والأسود بن يزيد، وعلقمة بن قيس، ومالك الأشتر النخعيين، والحلحال الضبي، والحرث بن سويد التميمي، وعمرو بن عتبة السلمي، وابن ربيعة السلمي، وأبا رافع المزني، وسويد بن شعبة التميمي، وزياد بن معاوية النخعي، وأخا القرثع الضبي، وأخا معضد الشيباني. وقيل: كان موته سنة إحدى وثلاثين.
وقيل: إن ابن مسعود لم يحمل أهل أبي ذر معه إنما معه إنما تركهم حتى قدم على عثمان بمكة فأعلمه بموته، فجعل عثمان طريقه عليهم فحملهم معه.

.ذكر خروج قارن:

ثم جمع قارن جمعاً كثيراً من ناحية الطبسين وأهل باذغيس وهراة وقوهستان وأقبل في أربعين ألفاً، فقال قيس بن الهيثم لابن خازم: ما ترى؟ قال: أرى أن تخلي البلاد فإني أميرها ومعي عهد من ابن عامر إذا كانت حرب بخراسان فأنا أميرها؛ وأخرج كتاباً كان قد افتعله عمداً، فكره قيس منازعته وخلاه والبلاد وأقبل إلى ابن عامر، فلامه ابن عامر وقال: قد تركت البلاد خراباً وأقبلت! قال: جاءني بعهد منك. قال: فسار ابن خازم إلى قارن في أربعة آلاف وأمرا لناس فحملوا الودك، فلما قرب من قارن أمر الناس أن يدرج كل رجل منهم على زج رمحه خرقةً أو قطناً ثم يكثروا دهنه، ثم سار حتى أمسى، فقد مقدمته ستمائة ثم اتبعهم وأمر الناس، فأشعلوا النيران في أطراف الرماح، فانتهت مقدمته إلى معسكر قارن نصف الليل فناوشوهم، وهاج الناس على دهش وكانوا آمنين من البيات، ودنا ابن خازم منهم فرأوا النيران يمنةً ويسرةً تتقدم وتتأخر وتنخفض وترتفع، فهالهم ذلك، ومقدمة ابن خازم يقاتلونهم، ثم غشيهم ابن خازم بالمسلمين فقتل قارن، فانهزم المشركون واتبعوهم يقتلوهم كيف شاؤوا، وأصابوا سبياً كثيراً. وكتب ابن خازم بالفتح إلى ابن عامر، فرضي وأقره على خراسان، فلبث عليها حتى انقضى أمر الجمل، وأقبل إلى البصرة فشهد وقعة ابن الحضرمي وكان معه في دار سنبيل.
وقيل: ما جمع قارن استشار قيس بن الهيثم عبد الله بن خازم فيما يصنع، فقال: أرى أنك لا تطيق كثرة من قد أتانا، فاخرج بنفسك إلى ابن عامر فتخبره بكثرة العدو ونقيم نحن في الحصون ونطاولهم ويأتينا مددكم. فخرج قيس، فلما أمعن أظهر ابن خازم عهداً وقال: قد ولاني ابن عامر خراسان، وسار إلى قارن فظفر به وكتب بالفتح إلى ابن عامر فأقره على خراسان؛ ولم يزل أهل البصرة يغزون من لم يكن صالح من أهل خراسان، فإذا عادوا تركوا أربعة آلاف نجدة.

.ذكر عدة حوادث:

وفي هذه السنة مات العباس عم النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان عمره يوم مات ثمانياً وثمانين سنة، كان أسن من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بثلاث سنين. وفيها مات عبد الرحمن بن عوف وعمره خمس وسبعون سنة. وعبد الله بن مسعود وصلى عليه عمار بن ياسر، وقيل عثمان. وتوفي عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أري الأذان. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وثلاثين:

في هذه السنة كانت غزوة معاوية حصن المرأة من أرض الروم بناحية ملطية. وفيها كانت غزوة عبد الله بن سعد إفريقية الثانية حين نقض أهلها العهد؛ وفيها كان مسير الأحنف إلى خراسان وفتح المروين، ومسير ابن عامر إلى نيسابور وفتحها، في قول بعضهم، وقد تقدم ذكر ذلك؛ وفيها كانت غزوة قبرس، في قول بعضهم، وقد تقدم ذكرها مستوفى، وقيل إن فتحها كان سنة ثمان وعشرين، فلما كان سنة اثنتين وثلاثين أعان أهلها الروم على الغزاة في البحر بمراكب أعطوهم إياها، فغزاهم معاوية سنة ثلاث وثلاثين في خمس مئة مركب ففتحها عنوة فقتل وسبى ثم أقرهم على صلحهم وبعث إليهم اثني عشر ألفاً فبنوا المساجد وبنى مدينة. وقيل: كانت غزوته الثانية سنة خمس وثلاثين.

.ذكر تسيير من سير من أهل الكوفة إلى الشام:

وفي هذه السنة سير عثمان نفراً من أهل الكوفة إلى الشام. وكان السبب في ذلك أن سعيد بن العاص لما ولاه عثمان الكوفة حين شهد على الوليد بشرب الخمر أمره أن يسير الوليد إليه، فقدم سعيد الكوفة وسير الوليد وغسل المنبر، فنهاه رجالٌ من بني أمية كانوا قد خرجوا معه عن ذلك، فلم يجبهم واختار سعيد وجوه الناس وأهل القادسية وقراء أهل الكوفة، فكان هؤلاء دخلته إذا خلا، وأما إذا خرج فكل الناس يدخل عليه، فدخلوا عليه يوماًن فبينا هم يتحدثون قال حبيش بن فلان الأسدي: ما أجود طلحة بن عبيد الله! فقال سعيد: إن من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جواداً، والله لو أن لي مثله لأعاشكم الله به عيشاً رغداً. فقال عبد الرحمن بن حبيش، وهو حدث: والله لوددت أن هذا الملطاط لك، يعني لسعيد، وهو ما كان للأكاسرة على جانب الفرات الذي يلي الكوفة. قالوا: فض الله فاك! والله لقد هممنا بك! فقال أبوه: غلام فلا تجاوزه. فقالوا: يتمنى له سوادنا. قال: ويتمنى لكم أضعافه، فثار به الأشتر وجندب وابن ذي الحنكة وصعصعة وابن الكواء وكميل وعمير بن ضابىء فأخذوه، فثار أبوه ليمنع عنه، فضربوهما حتى غشي عليهما، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون حتى قضوا منهما وطراً. فسمعت بذلك بنو أسد فجاؤوا وفيهم طليحة فأحاطوا بالقصر وركبت القبائل فعاذوا بسعيد، فخرج سعيد إلى الناس فقال: أيها الناس قوم تنازعوا وقد رزق الله العافية، فردهم فتراجعوا. وأفاق الرجلان فقالا: قاتلنا غاشيتك. فقال: لا يغشوني أبداً، فكفا ألسنتكما ولا تحزبا الناس. ففعلا، وقعد أولئك النفر في بيوتهم وأقبلوا يقعون في عثمان.
وقيل: بل كان السبب في ذلك أنه كان يسمر عند سعيد بن العاص وجوه أهل الكوفة، منهم: مالك بن كعب الأرحبي والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس النخعيان ومالك الأشتر وغيرهم، فقال سعيد: إنما هذا السواد بستان قريش. فقال الأشتر: أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك؟ وتكلم القوم معه، فقال عبد الرحمن الأسدي، وكان على شرطة سعيد: أتردون على الأمير مقالته؟ وأغلظ لهم. فقال الأشتر: من ههنا لا يفوتنكم الرجل! فوثبوا عليه فوطئوه وطأً شديداً حتى غشي عليه، ثم جر برجله، فنضح بماء فأفاق فقال: قتلني من انتخبت. فقال: والله لا يسمر عندي أحد أبداً. فجعلوا يجلسون في مجالسهم يشتمون عثمان وسعيداً، واجتمع إليهم الناس حتى كثروا، فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم، فكتب إليهم أن يلحقوهم بمعاوية، وكتب إلى معاوية: إن نفراً قد خلقوا للفتنة فأقم عليهم وانههم، فإن آنست منهم رشداً فاقبل وإن أعيوك فارددهم علي.
فلما قدموا على معاوية أنزلهم كنيسة مريم وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق بأمر عثمان، وكان يتغدى ويتعشى معهم، فقال لهم يوماً: إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفاً وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً، ولو لم تكن قريش كنتم أذلة، إن أئمتكم لكم جنة فلا تفترقوا عن جنتكم، وإن أئمتكم يصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم السوء ولا يحمدكم على الصبر ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم.
فقال رجل منهم، وهو صعصعة: أما ما ذكرت من قريشٍ فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا.
فقال معاوية: عرفتكم الآن وعلمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيبهم ولا أرى لك عقلاً، أعظم عليك أمر الإسلام وأذكرك به وتذكرني بالجاهلية! أخزى الله قوماً عظموا أمركم! افقهوا عني، ولا أظنكم تفقهون، أن قريشاً لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا بالله تعالى، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحساباً، وأمحضهم أنساباً، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية، والناس يأكل بعضهم بعضاً، إلا بالله، فبوأهم حرماً آمناً يتخطف الناس من حولهم! هل تعرفون عربياً أو عجمياً أو أسود أو أحمر إلا وقد أصابه الدهر في بلده وحرمته إلا ما كان من قريش فإنهم لم يردهم أحدٌ من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل، حتى أراد الله أن يستنقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه ثم ارتضى له أصحاباً فكان خيارهم قريشاً، ثم بنى هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم فلا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه؟ أف لك ولأصحابك! أما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر القرى! أنتنها بيتاً، وأعمقها وادياً، وأعرفها بالشر، وألأمها جيراناً! لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سب بها، ثم كانوا ألأم العرب ألقاباً وأصهاراً، نزاع الأمم، وأنتم جيران الخط، وفعلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي، صلى الله عليه وسلم، لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي، صلى الله عليه وسلم، فأنت شر قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس أقبلت تبغي دين الله عوجاً، وتنزع إلى الذلة، ولا يضر ذلك قريشاً ولا يضعهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إن الشيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشر فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم، ولا تدركون بالشر أمراً أبداً إلا فتح الله عليكم شراً منه وأخزى.
ثم قام وتركهم فتقاصرت إليهم أنفسهم، فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال: إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحداً أبداً ولا يضره ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة، فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطرنكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار، اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم.
فلما خرجوا دعاهم وقال لهم: إني معيد عليكم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان معصوماً فولاني وأدخلني في أمره، ثم استخلف أبو بكر فولاني، ثم استخلف عمر فولاني، ثم استخلف عثمان فولاني، ولم يولني أحدٌ إلا وهو عني راضٍ، وإنما طلب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للأعمال أهل الجزاء عن المسلمين والغناء، ووإن الله ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به، فلا تعرضوا لأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون، فإن الله غير تارككم حتى يختبركم ويبدي للناس سرائركم.
وكتب معاوية إلى عثمان: إنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان أثقلهم الإسلام و، أضجرهم العدل، لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلمون بحجة، إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم ومخزيهم، وليسوا بالذين ينكون أحداً إلا مع غيرهم، فانه سعيداً ومن عنده عنهم، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب ونكير.
فخرجوا من دمشق فقالوا: لا ترجعوا بنا إلى الكوفة فإنهم يشمتون بنا، ولكن ميلوا إلى الجزيرة، فسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان على حمص، فدعاهم فقال: يا آلة الشيطان لا مرحباً بكم ولا أهلاً، قد رجع الشيطان محسوراً وأنتم بعد نشا، خسر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم، يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم، لا تقولوا لي ما بلغني أنكم قلتم لمعاوية؛ أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقىء الردة! والله لئن بلغني يا صعصعة أن أحداً ممن معي دق أنفك ثم غمصك لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى! فأقامهم شهراً كلما ركب أمشاهم، فإذا مر به صعصعة قال: يا ابن الحطيئة، أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر؟ ما لك لا تقول كما بلغني أنك قلت لسعيد ومعاوية؟ فيقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله. فما زالوا به حتى قال: تاب الله عليكم. وسرح الأشتر إلى عثمان، فقدم إليه ثانياً، فقال له عثمان: احلل حيث شئت. فقال: مع عبد الرحمن بن خالد. فقال: ذلك إليك، فرجع إليه.
قيل: وقد روي أيضاً نحو ما تقدم وزادوا فيه أن معاوية لما عاد غليهم من القابلة وذكرهم كان مما قال لهم: وإني والله لا آمركم بشيء إلا وقد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي، وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها غلا ما جعل الله لنبيه، صلى الله عليه وسلم، فإنه انتخبه وأكرمه، وإني لأظن أن أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازماً. قال صعصعة: قد كذبت! قد ولدهم خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة فسجدوا له، وكان فيهم البر والفاجر، والأحمق والكيس. فخرج تلك الليلة من عندهم ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلاً ثم قال: أيها القوم ردوا خيراً أو اسكتوا وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهاليكم والمسلمين فاطلبوه. فقال صعصعة: لست بأهل ذلك ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله. فقال: أليس أول من ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعة نبيه وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا؟ قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: إني آمركم الآن إن كنت فعلت فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه، صلى الله عليه وسلم، ولزوم الجماعة وأن توقروا أئمتكم وتدلوهم على أحسن ما قدرتم عليه. فقال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك، من كان أبوه أحسن قدماً في الإسلام من أبيك وهو أحسن في الإسلام قدماً منك. فقال: والله إن لي في الإسلام قدماً ولغيري كان أحسن قدماً مني ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطاب، فلو كان غيري أقوى مني لم تكن عند عمر هوادة لي ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلي فاعتزلت عمله، فمهلاً فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر، ولعمري لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأمانيكم ما استقامت لأهل الإسلام يوماً ولا ليلة، فعاودوا الخير وقولوه، وإن لله لسطوات، وإني لخائف عليكم أن تتايعوا في مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن فيحلكم ذلك دار الهوان في العاجل والآجل. فوثبوا عليه وأخذوا رأسه وليحته، فقال: مه إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضاً! ثم قام من عندهم وكتب إلى عثمان نحو الكتاب المتقدم، فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردهم فأطلقوا ألسنتهم، فضج سعيد منهم إلى عثمان، فكتب إليه عثمان أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بحمص، فسيرهم إليها، فأنزلهم عبد الرحمن وأجرى عليهم رزقاً، وكانوا: الأشتر وثابت بن قيس الهمداني وكميل بن زياد وزيد بن صوحان وأخاه صعصعة وجندب بن زهير الغامدي وجندب بن كعب الأزدي وعروة بن الجعد وعمرو ابن الحمق الخزاعي وابن الكواء.
قيل: سأل معاوية ابن الكواء عن نفسه قال: أنت بعيد الثرى كثير المرعى طيب البديهة بعيد الغور، الغالب عليك الحلم، ركن من أركان الإسلام، سدت بك فرجة مخوفة. قال: فأخبرني عن أهل الأحداث من الأمصار فإنك أعقل أصحابك. قال: أما أهل المدينة فهم أحرص الأمة على الشر وأعجزهم عنه، وأما أهل الكوفة فإنهم يردون جميعاً ويصدرون شتى، وأما أهل مصر فهم أولى الناس بشر وأسرعهم ندامة، وأما أهل الشام فهم أطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم.

.ذكر تسيير من سير من أهل البصرة إلى الشام:

ولما مضت ثلا سنين من إمارة عبد الله بن عامر بلغه أن في عبد القيس رجلاً نازلاً على حكيم بن جبلة العبدي، وكان عبد الله بن سبأ، المعروف بابن السوداء، هو الرجل النازل عليه، واجتمع إليه نفر فطرح إليهم ابن السوداء ولم يصرح، فقبلوا منه. فأرسل إليهم ابن عامر فسأله: من أنت؟ فقال: رجل من أهل الكتاب رغبت في الإسلام وفي جوارك. فقال: ما يبلغني ذلك، اخرج عني. فخرج حتى أتى الكوفة فأخرج منها، فقصد مصر فاستقر بها وجعل يكاتبهم ويكاتبونه وتختلف الرجال بينهم.
وكان حمران بن أبان قد تزوج امرأة في عدتها ففرق عثمان بينهما وضربه وسيره إلى البصرة، فلزم ابن عامر فتذاكروا يوماً المرور بعامر بن عبد القيس، فقال حمران: ألا أسبقكم فأخبره؟ فخرج فدخل عليه وهو يقرأ في المصحف فقال: الأمير يريد المرور بك فأحببت أن أعلمك، فلم يقطع قراءته، فقام من عنده، فلما انتهى إلى الباب لقيه ابن عامر فقال: جئتك من عند امرىءٍ لا يرى لآل إبراهيم عليه فضلاً؛ ودخل عليه ابن عامر فأطبق المصحف وحدثه، فقال له ابن عامر: ألا تغشانا؟ فقال: سعد بن أبي القرحاء يحب الشرف. فقال: ألا نستعملك؟ فقال: حصين بن الحر يحب العمل. فقال: ألا نزوجك؟ فقال: ربيعة بن عسل يعجبه النساء. فقال: إن هذا يزعم أنك لا ترى لآل إبراهيم عليك فضلاً! فتصفح المصحف، فكان أول ما وقع عليه: {إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} آل عمران:.
فسعى به حمران، وأقام حمران بالبصرة ما شاء الله، وأذن له عثمان فقدم المدينة ومعه قوم، فسعوا بعامر بن عبد القيس أنه لا يرى التزويج ولا يأكل اللحم ولا يشهد الجمعة، فألحقه بمعاوية، فلما قدم عليه رأى عنده ثريداً فأكل أكلاً عربياً، فعرف أن الرجل مكذوب عليه، فعرفه معاوية سبب إخراجه، فقال: أما الجمعة فإني أشهدها في مؤخر المجلس ثم أرجع في أوائل الناس، وأما التزويج فإني خرجت وأنا يخطب علي، وأما اللحم فقد رأيت ولكني لا آكل ذبائح القصابين منذ رأيت قصاباً يجر شاة إلى مذبحها ثم وضع السكين على حلقها فما زال يقول: النفاق النفاق، حتى ذبحها. قال: فارجع. قال: لا أرجع إلى بلد استحل أهله مني ما استحلوا؛ فكان يكون في السواحل، فكان يلقى معاوية فيكثر معاوية أن يقول: ما حاجتك. فيقول: لا حاجة لي. فلما أكثر عليه قال: ترد علي من حر البصرة شيئاً لعل الصوم أن يشتد علي فإنه يخف علي في بلادكم.

.ذكر عدة حوادث:

وحج بالناس عثمان. وفيها مات المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الأسود صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأوصى أن يصلي عليه الزبير. وفيها توفي الطفيل والحصين بنا الحرث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وشهدا بدراً وأحداً، وقيل: ماتا سنة إحدى وثلاثين، وقيل اثنتين وثلاثين. ثم دخلت:

.سنة أربع وثلاثين:

قيل: فيها كانت غزوة الصواري، في قول بعضهم، وقد تقدم ذكرها.
وفيها تكاتب المنحرفون عن عثمان للاجتماع لمناظرته فيما كانوا يذكرون أنهم نقموا عليه.

.ذكر الخبر عن ذلك وعن يوم الجرعة:

قد ذكرنا خبر المسيرين من الكوفة ومقامم عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ووفد سعيد بن العاص إلى عثمان سنة إحدى عشرة من خلافة عثمان، وكان سعيد قد ولى قبل مخرجه إلى عثمان بسنة وبعض أخرى الأشعث بن قيس أذربيجان، وسعيد بن قيس الري، والنسير العجلي همذان، والسائب بن الأقرع أصبهان، ومالك بن حبيب ماه، وحكيم بن سلام الحزامي الموصل، وجرير ابن عبد الله قرقيسيا، وسلمان بن ربيعة الباب، وجعل القعقاع بن عمرو على الحرب، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس، وخلت الكوفة من الرؤساء. فخرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان ومعه الذين كان ابن السوداء يكاتبهم، فأخذه القعقاع بن عمرو فقال: إنما نستعفي من سعيد. فقال: أما هذا فنعم، فتركه وكاتب يزيد المسيرين في القدوم عليه، فسار الأشتر والذين عند عبد الرحمن ابن خالد، فسبقهم الأشتر، فلم يفجإ الناس يوم الجمعة إلا والأشتر على باب المسجد يقول: جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان وتركت سعيداً يريده على نقصان نسائكم على مائة درهم، ورد أولي البلاء منكم إلى ألفين، ويزعم أن فيئكم بستان قريش. فاستخف الناس وجعل أهل الرأي ينهونهم فلا يسمع منهم.
فخرج يزيد وأمر منادياً ينادي: من شاء أن يلحق بيزيد لرد سعيد فليفعل، فبقي أشراف الناس وحلماؤهم في المسجد. وعمرو بن حريث يومئذ خليفة سعيد، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأمرهم بالاجتماع والطاعة، فقال له القعقاع: أترد السيل عن أدراجه؟ هيهات لا والله لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية ويوشك أن تنتضى ويعجون عجيج العتدان ويتمنون ما هم فيه اليوم فلا يرده الله عليهم أبداً، فاصبر. قال: أصبر. وتحول إلى منزلته، وخرج يزيد بن قيس فنزل الجرعة- وقي قريب من القادسية- ومعه الأشتر، فوصل إليهم سعيد ابن العاص، فقالوا: لا حاجة لنا بك. قال: إنما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلاً وإلي رجلاً، وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل واحد؟ ثم انصرف عنهم، وتحسوا بمولى له على بعير قد حسر فقال: والله ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع. فقتله الأشتر. ومضى سعيد حتى قدم على عثمان فأخبره بما فعلوا وأنهم يريدون البذل وأنهم يختارون أبا موسى، فجعل أبا موسى الأشعري أميراً، وكتب إليهم: أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد، ووالله لأقرضنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري ولأستصلحنكم بجهدي فلا تدعوا شيئاً أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئاً كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا ما استعفيتم منه، أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم على الله حجة، ولنصبرن كما أمرنا حتى تبلغوا ما تريدون. ورجع من الأمراء من قرب من الكوفة، فرجع جرير من قرقيسيا، وعتيبة بن النهاس من حلوان، وخطبهم أبو موسى وأمرهم بلزوم الجماعة وطاعة عثمان، فأجابوا إلى ذلك وقالوا: صل بنا. فقال: لا إلا على السمع والطاعة لعثمان. قالوا: نعم. فصلى بهم وأتاه ولاته فولاهم.
وقيل: سبب يوم الجرعة أنه كان قد اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان فأجمع رأيهم فأرسلوا إليه عامر بن عبد الله التميمي ثم العنبري. وهو الذي يدعى عامر بن عبد القيس، فأتاه فدخل عليه فقال له: إن ناساً من المسلمين اجتمعوا ونظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أموراً عظاماً، فاتق الله وتب إليه. فقال عثمان: انظروا إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارىء ثم يجيء يكلمني في المحقرات، ووالله ما يدري أين الله! فقال عامر: بلى والله إني لأدري أن الله لبالمرصاد! فأرسل عثمان إلى معاوية وعبد الله بن سعد وإلى سعيد بن العاص وعمرو بن العاص وعبد الله بن عامر فجمعهم فشاورهم وقال لهم: إن لكل امرىء وزراء ونصحاء وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا إلي أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون، فاجتهدوا رأيكم. فقال له ابن عامر: أرى لك يا أميرالمؤمنين أن تشغلهم بالجهاد عنك حتى يذلوا لك ولا يكون همة أحدهم إلا في نفسه وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته. وقال سعيد: احسم عنك الداء فاقطع عنك الذي تخاف، إن لكل قوم قادة متى تهلك يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر. فقال عثمان: إن هذا هو الراي لولا ما فيه. وقال معاوية: أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله وأكفيك أنا أهل الشام. وقال عبد الله بن سعد: إن الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم. ثم قام عمرو ابن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية فقلت وقالوا وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزماً وأقدم قدماً. فقال له عثمان: ما لك قمل فروك؟ أهذا الجد منك؟ فسكت عمرو حتى تفرقوا فقال: والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم علي من ذلك ولكني علمت أن بالباب من يبلغ الناس قول كل رجل منا فاردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيراً وأدفع عنك شراً.
فرد عثمان عماله إلى أعمالهم وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه، ورد سعيداً إلى الكوفة، فلقيه الناس من الجرعة وردوه، كما سبق ذكره. قال أبو ثور الحداني: جلست إلى حذيفة وأبي مسعود الأنصاري بمسجد الكوفة يوم الجرعة، فقال أبو مسعود: ما أرى أن ترد على عقبيها حتى يكون فيها دماء. فقال حذيفة: والله لتردن على عقبيها ولا يكون فيها محجمة دم وما أرى اليوم شيئاً إلا وقد علمته والنبي، صلى الله عليه وسلم، حي. فرجع سعيد إلى عثمان ولم يسفك دم، وجاء أبو موسى أميراً، وأمر عثمان حذيفة بن اليمان أن يغزو الباب فسار نحوه.